
الوساطة والصلح في ضوء المرسوم الفرنسي رقم 2025-660: نحو عدالة ودية فعّالة
شهدت الأنظمة القانونية المعاصرة تحولات عميقة في أدواتها وإجراءاتها، خصوصًا مع تزايد الضغوط على المحاكم من خلال كثرة الدعاوى وارتفاع كلفة النزاعات القضائية ورسومها .
لقد برزت الوساطة والصلح كآليات بديلة لحل النزاعات بالطرق السلمية ،من اجل تحقيق العدالة الناجزة بطريقة أكثر سرعة ومرونة. وقد تجسد هذا التوجه في فرنسا بصدور المرسوم رقم(2025/660) بتاريخ 18 يوليو 2025، الذي دخل حيز التنفيذ في 1 سبتمبر 2025 حيث احدث ثورة في إجراءات العدالة الفرنسية من خلال ضرورة الاجراء الإجباري لإستخدام الوساطة قبل اللجوء إلى القضاء المختص وهذا دليل واضح على التغيير الاستراتيجي والتقدم القضائي المبني على التفاوض والوساطة والصلح في حسم النزاعات القائمة والتي يمكن ان تختصر الوقت والجهد وتقدم الحل الودي على الحل القضائي .
أولاً: الأسس الجوهرية للمرسوم الجديد
1- التوجيه الإجباري نحو الوساطة
منح المرسوم القاضي سلطة إلزام الأطراف بحضور جلسة وساطة أو صلح قبل المباشرة في الدعوى القضائية. بل تجاوز ذلك إلى فرض المسؤولية من خلال تحديد غرامات مالية على الممتنعين عن الحضور دون عذر قانوني ، وهو ما يبين بوضوح رغبة المشرع الفرنسي في إرساء ثقافة الحلول الودية الصلحية من خلال تقريب وجهات النظر والوصول الى حل نهائي كجزء أصيل من العدالة.
2- الوساطة والصلح كإجراء قضائي أساسي
أصبحت الوساطة والصلح إجراءً إلزاميًا موازياً للتقاضي، ولم تعد خيارًا ثانويًا. كما أعطى المرسوم الاتفاقات الناتجة عن هذه الإجراءات قوة تنفيذية، بعد إكسابها صفة “الأحكام القضائية”، مما يعزز ثقة المتقاضين ويشجعهم على تبني الحلول السلمية.
3- السرية والحماية القانونية
أكد المرسوم على مبدأ السرية المطلقة لجلسات الوساطة والصلح، حمايةً لثقة الأطراف. والاستثناء الوحيد يتمثل في القضايا المرتبطة بالنظام العام أو حماية حقوق الأطفال. هذه الضمانة القانونية تعزز من مصداقية الوساطة وتجعلها أكثر جاذبية للأطراف.
ثانياً: الآثار القانونية على المنظومة القضائية .
1. تخفيف العبء على المحاكم: من خلال تقليل عدد القضايا المعروضة، وتسريع الفصل في النزاعات التي قد تمتد لسنوات دون الوصول الى حسم النزاع القائم وبذلك يتم تقليص التكاليف المالية بالاضافة الى الغاء الكثير من الاجراءات حيث يتم اثبات الصلح والوساطة في محضر قضائي وينفذ بشكل قانوني وفقا” للاصول.
2. تعزيز ثقافة المحاماة الحديثة: إذ يدفع المرسوم المحامين نحو الاهتمام بمصلحة موكليهم عبر الحلول الودية الصلحية المبنية على حسن النية بعيدا” عن التصلب في الموقف والعداء بين المدعي والمدعى عليه وما يتبعه من مشاكل عائلية
3. إعادة تعريف دور القاضي: لم يعد القاضي مجرد “حَكم”، بل أصبح موجّهًا ومرشدًا للأطراف نحو العدالة التوافقية الودية من اجل ايجاد الحل الصلحي وانهاء النزاع وهذا ما يعكس فلسفة العدالة الوقائية والحفاظ على العلاقات بين اطراف النزاع من خلال حلول ترضي كل الاطراف المتنازعة
ثالثاً: اصلاح إجرائي ام رؤية استراتيجية .
لا يمكن النظر إلى هذا المرسوم باعتباره مجرد إجراء إجرائي، بل هو إصلاح استراتيجي يواكب الاتجاهات العالمية في تطوير العدالة. فالتحول من القضاء الصراعي إلى القضاء التوافقي يسهم في:
– تعزيز الثقة المجتمعية بالمؤسسات القضائية.
– تقليل النزاعات المزمنة التي تستهلك وقتًا ومالًا.
– نشر ثقافة “التسوية السلمية للنزاعات” كقيمة مجتمعية.
بناء لما تقدم فإن المرسوم الفرنسي رقم(2025/660) يشكل خطوة رائدة نحو تعزيز الوساطة والصلح كأدوات أساسية لتحقيق العدالة من خلال استخدام الوسائل البديلة لحل النزاعات بالطرق السلمية فهو لا يقتصر على معالجة ازدحام قاعات المحاكم بالدعاوى والشكاوى والمدعين والمدعى عليهم بل يعيد صياغة العلاقة بين المتقاضين، والمحامين، والقضاة في إطار أكثر مرونة وإنسانية من خلال الحل الودي القالم على الصلح والوساطة ومن شأن هذا التوجه أن يقدم نموذجًا يمكن أن يُحتذى به في الأنظمة القانونية الأخرى، خاصة في الدول التي تسعى إلى تحديث منظوماتها القضائية وجعلها أكثر توافقًا مع متطلبات الحلول الودية المبنية على الوسائل البديلة لحل النزاعات بالطرق السلمية .
المستشار الدكتور ناجي سابق # المحكم الدكتور ناجي سابق # الوساطة # الصلح # التحكيم