الأم.. الحضن الأول للحياة: كيف يشكّل وجودها عالم الطفل في شهوره الأولى؟
الاقتراب من المعجزة: لماذا تحتاج الأم أن تكون بجانب طفلها منذ اللحظة الأولى؟

في اللحظة التي يُولد فيها الطفل، لا يبدأ فقط رحلة جديدة في الحياة، بل يدخل عالمًا لا يفهمه بعد، عالمًا مليئًا بالأصوات، والضوء، والمشاعر الجديدة. في هذا العالم، تشكّل الأم نقطة الثبات الوحيدة، والمرسى الذي يعرفه جيدًا من نبضها، وصوتها، ورائحتها. وجود الأم بجانب طفلها في شهوره الأولى ليس مجرد حضور جسدي، بل هو احتواء نفسي وعاطفي يُحدث فرقًا عميقًا في كل جوانب حياة الطفل. دعونا نستعرض هذا التأثير خطوة بخطوة.
-
تأسيس الارتباط العاطفي العميق
في الأيام الأولى، لا يرى الطفل جيدًا، لكنه يشعر. يشعر بقلب أمه، بنبضها، بحنانها. من خلال لمستها ونظراتها وكلماتها، يتكوّن أول رابط إنساني في حياته. هذا الرابط العاطفي العميق بين الأم ورضيعها يكوّن الأساس الذي سيبني عليه ثقته بنفسه وثقته بالآخرين. وجود الأم الدائم والمستقر يساعد الطفل على فهم أن العالم مكان آمن، وأن هناك من يسانده ويشعر به. هذا الأمان العاطفي هو حجر الأساس لكل تطور نفسي لاحق.
-
دعم النمو العقلي والعصبي
كل لحظة تقضيها الأم بجانب طفلها هي فرصة ذهبية لتنشيط دماغه. الدراسات العلمية تؤكد أن التفاعل الحسي والعاطفي بين الطفل وأمه، من خلال النظرات، واللمسات، والكلام، يحفّز خلايا الدماغ على النمو والتطور. الأصوات الناعمة، نغمة صوت الأم، ودفء الجلد، كلها عناصر تسرّع في بناء الروابط العصبية داخل دماغ الطفل. فكل حضن وكل حديث هامس هو تغذية عقلية وعصبية، لا تقل أهمية عن الغذاء الجسدي.
-
تهدئة الجهاز العصبي وتقليل التوتر
الرضيع يولد بجهاز عصبي غير مكتمل النمو، ومعرّض لمشاعر التوتر بسهولة. البكاء ليس دائمًا علامة على الجوع، بل أحيانًا نتيجة شعور الطفل بعدم الأمان أو الغربة. وجود الأم يساعد على تنظيم إيقاع التنفس ونبض القلب للطفل، ويمنحه شعورًا داخليًا بالهدوء. الأطفال الذين يحظون بحضور أمومي دائم في شهورهم الأولى يميلون إلى النوم بانتظام، وتكون استجابتهم للتوتر أقل حدّة في المستقبل.
-
تسهيل وتعزيز الرضاعة الطبيعية
حين تكون الأم قريبة من طفلها، يصبح من السهل عليه أن يرضع عند الحاجة دون تأخير، ما يُعزز إفراز الحليب ويقوّي العلاقة بينهما. الرضاعة الطبيعية ليست فقط تغذية، بل لحظة تواصل عميق، فيها يشعر الطفل بالدفء والاطمئنان، وتشعر الأم بارتباطها به. كما أن تكرار هذا القرب يساعد على تنظيم هرمونات الأم ويقلل من احتمالية حدوث احتقان أو مشاكل صحية متعلقة بالرضاعة.
-
التعرّف الدقيق على لغة الطفل
الطفل يتواصل قبل أن يتكلم. يبكي بطريقة معينة عندما يكون جائعًا، بطريقة مختلفة حين يشعر بالبلل أو المغص. الأم القريبة من طفلها تتعلم سريعًا هذه اللغة الصامتة، فتتمكن من تلبية احتياجاته بدقة وسرعة، ما يقلل بكاءه ويزيد من شعوره بالأمان. هذه القدرة على الفهم تعزز من ثقة الطفل في من حوله، وتقوي العلاقة بينه وبين أمه.
-
وقاية نفسية للأم من مشاعر الوحدة والاكتئاب
الأم أيضًا بحاجة إلى وجود طفلها، ليس فقط الطفل بحاجة إليها. التواصل المستمر مع الرضيع، وحمله، وتقبيله، يساعد في إفراز هرمونات مثل الأوكسيتوسين (هرمون الحب)، التي ترفع من شعور الأم بالراحة والسعادة. وجودها بجانب طفلها، وملاحظة تطوره يومًا بعد يوم، يشكل مصدر قوة وسند نفسي لها، ويقلل من احتمالية إصابتها باكتئاب ما بعد الولادة.
-
بناء شخصية متزنة وواثقة في المستقبل
الأطفال الذين ينشأون في بيئة مليئة بالحب، ويشعرون بالأمان العاطفي في شهورهم الأولى، غالبًا ما يكونون أكثر توازنًا نفسيًا في المراحل اللاحقة من حياتهم. فهم يتعلمون منذ البداية أن الحب موجود، وأن الحماية متوفرة، ما يُكسبهم ثقة داخلية تُترجم لاحقًا إلى قدرة على التفاعل الإيجابي مع الآخرين وتحمّل الضغوط.
-
التوازن بين الرعاية الذاتية والأمومة
بقاء الأم إلى جانب طفلها لا يعني التخلي عن ذاتها. بالعكس، يمكن لهذه المرحلة أن تكون فرصة لإعادة التواصل مع الذات، وعيش لحظات هادئة، وقراءة، والتأمل، وتعلّم أشياء جديدة. الأهم هو الوعي بأن رعاية الطفل لا تعني الذوبان الكامل فيه، بل المشاركة معه في حياة تُغذّي الطرفين معًا.
الخاتمة: كل لحظة تقضيها الأم بجانب طفلها… هي حياة
قد لا يدرك الطفل في لحظته الحالية ما يعنيه وجود أمه بجانبه، لكنه في اللاوعي، يُخزّن كل تلك اللحظات ليبني عليها كيانه العاطفي والنفسي. الحضور الحقيقي، المليء بالحب والحنان والاحتواء، هو أعظم هدية يمكن أن تقدّمها الأم لطفلها في بداية الطريق. فهي ليست فقط تمنحه الحياة، بل تُعلّمه كيف يعيشها بثقة وطمأنينة.